الشيخ محمد الإمام بين الاعتدال والإفراط
الحمد لله القائل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} وهذه الآية قد قيل فيها بأنها أجمع آية في الأمر والنهي.
أما بعد:
فإن الشيخ محمد الإمام معروف بالصدق والإخلاص والتقوى والزهد والورع وسلامة الصدر والنصح للمسلمين مع كرم وتواضع جم، وكل من جالس الشيخ لمس منه ذلك، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، وقد وقفت معه في عرفات أكثر من موسم فلا والله ما رأت عيني مثله في موقف عرفات، وأنا لم أر كل أهل الموقف فقد يكون هناك من هو مثله أو أشد ابتهالا وتضرعا في موقف عرفات منه، وقد صليت بعض السنوات في العشر الأواخر من رمضان في دار الحديث في معبر وكنت قريبا من الصف الذي فيه الشيخ فكنت ألاحظ الشيخ وتأثره بالقرآن وحرصه على كتمان البكاء وإخفائه، ومن زار الشيخ إلى دار الحديث في مدينة معبر رأى العجب العجاب.
فمجموع الساعات التي ينامها الشيخ في ليله ونهاره، أربع ساعات تقريبا، وبقية وقته بين عباده قاصرة كالذكر والدعاء وتلاوة القرآن وقيام الليل وصيام الإثنين والخميس…
أو عبادة متعدية من التعليم والتأليف والفتوى والإصلاح بين الناس ونفعهم بكتابة الشفاعات إلى أهل الخير وغير ذلك….
وسيخرج له قريبا مشروعه العظيم الذي بدأ فيه قبل خمسة عشر عاما وهو “إجماعات المفسرين وما عليه جمهورهم” في ثلاثين مجلد تقريبا.
وقبل الأحداث التي تمر بها اليمن حاليا كان الشيخ يخرج كل أسبوع إلى المدن اليمنية وقراها للدعوة إلى الله وليس هناك مدينة في شمال اليمن وجنوبه إلا وقد ذهب إليها إلا ما ندر، ناصحا ومعلما وواعظا ومذكرا وقد أخبرني أحد مرافقيه قال كنا نخرج مع الشيخ دعوة إلى الله فلا يأتي الليل إلا ونحن في تعب شديد لأن الشيخ يتنقل في القرى لإلقاء الكلمات بعد كل صلاة، فننام إلى قبيل الفجر بينما ينام الشيخ بعض الساعات ثم يقوم لصلاة الليل.
والشيخ محمد الإمام معروف بالحكمة والتأني والتؤدة والرفق والصبر والحلم والعفو والصفح وعدم الانتقام لنفسه، هذا في تعامله مع الناس، بينما يحمل نفسه على العزيمة والورع والحرص على اتباع السلف الصالح، والشيخ لا يدركه من سار معه فضلا عن أن يسبقه في أعمال الخير بل يُذكِّر من يسير معه بالسلف الصالح، وخلال مسيرته الدعوية التي دخلت في العقد الرابع، لم يثر فتنة، ورغم كثرة الفتن التي مرت بها اليمن في السنوات الأخيرة إلا إن الشيخ كان يتعامل معها بالحكمة والبصيرة والعلم والصبر والتؤدة والاستعانة بالله. ودائما يوصي طلابه خاصة الذين يخرجون يومي الخميس والجمعة للدعوة إلى الله وخطبة الجمعة في المدن والقرى وهم بالمئات يوصيهم بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر والرفق، ويوصي جميع طلابه الذين في دار الحديث بالحكمة والصبر والرفق، وطلاب الشيخ الذين في دار الحديث هم بالآلاف، ومنهم المدرسون ومنهم من له مؤلفات مفيدة ونافعة ومنهم الداعية داخل اليمن وخارجها، وقد انتفع الناس انتفاعا عظيما بدار الحديث بمعبر، حفظها الله وحفظ الله شيخها من كل سوء ومكروه.
والشيخ محمد الإمام لم يُخدع بسياسة باطنها غير ظاهرها، فضلا عن أن تستغله سياسة لتسويغ وتسويق باطلها وأفكارها، ولم ينضم إلى أحزاب ظاهرة ولا خفية، عملا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ}.
والشيخ محمد الإمام ممن آثر الآخرة على الدنيا نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، فالشيخ لا يملك منها قليلا ولا كثيرا بل ما جاءه منها أنفقه على المسلمين وعلى الدعاة إلى الله وعلى طلاب دار الحديث في معبر.
وقد عاش سنوات طويلة في بيت صغير متواضع من الطوب والخشب، وكان كلما عُرِض عليه بناء مسكن آخر، يرفض حتى كبر أولاده وكثروا وافق وبني له مسكن آخر أوسع وأحكم من الأول.
والشيخ محمد الإمام من أبعد الناس عن حب الشهرة، وعندما خطب خطبة جمعة وحث فيها اليمنيين على الحرص على الاجتماع والوحدة وقال من يدعونا إلى الفرقة والانفصال كمن يدعونا إلى الكفر، فزايد البعض على هذه الكلمة فأخرج الشيخ كلمة وبين مراده وهو أن الدعوة إلى الفرقة شديدة جدا علينا ونكره ذلك كرها شديدا كما نكره الدعوة إلى الكفر، إلا أن البعض استمر في المزايدة، فطلب مني أحد المسؤولين على بعض القنوات في صنعاء أن أقنع الشيخ بالموافقة على أن يتم اتصال هاتفي يبث في تلك القناة يبين الشيخ الكلمة التي كتبها وبين فيها مراده، فاعتذر الشيخ مكتفيا بتلك الكلمة التي كتبها ونشرت في حينها.
وقد استأذن أكثر من شخص الشيخ محمد الإمام في أن يكتب له ترجمة فأبى الشيخ وقال إذا قضى الله أمره، يقصد بموته، قال فليكتب الشخص ما يقربه إلى الله.
وقد أثنى على الشيخ محمد الإمام الكثير من العلماء مثل الشيخ مقبل الوادعي والشيخ عبد المحسن العباد علامة المدينة النبوية ومحدث مكة الشيخ العلامة محمد بن علي آدم الأتيوبي والشيخ وصي الله عباس والشيخ صالح السحيمي والشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي والقاضي العمراني وغيرهم وعندما قابلت الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ مع بعض المشايخ، كان أول ما سألنا عن الشيخ محمد الإمام.
وأخيرا الشيخ محمد الإمام كغيره من أهل العلم ليس بمعصوم وقد أثنى العلامة محمد بن صالح العثيمين على كلام ابن رجب الذي ذكره في القواعد الفقهية، قال ابن رجب والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
ونحن مع الردود القائمة على العدل والعلم والنصيحة واحترام وحسن الظن بأهل العلم المعروفين بصحة العقيدة وسلامة المنهج.
وإذا وجِد الظلم عند أهل العلم فهذه مصيبة عظيمة، لأن العلماء ورثة الأنبياء والواجب أن يكونوا من أبعد الناس عن الظلم، ومن أرحم الناس بالناس، والحاجة اليوم ماسة إلى التراحم والعدل وإلى الحرص على جمع الكلمة على الحق والهدى، لا إلى الظلم والبغي وزيادة الفرقة، قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (10)}.
وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). متفق عليه
وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا – وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُه)) متفق عليه.
وقد كان المقصد من تأليف الشيخ محمد الإمام كتاب الإبانة هو الحرص منه على معالجة الخلافات بالطريقة الصحيحة التي جاء بها الشرع وسار عليه أئمة السنة، ومن كان عنده ملاحظة فليذكرها للشيخ على الوجه الصحيح، والكتاب أثنى عليه كثير من أهل العلم والفضل.
والبعض اليوم حالهم كما قال الشاعر:
والذي ندين الله به أن الشيخ محمد الإمام إذا قال شيئا أو عمل شيئا مما يتعلق بقضايا المسلمين، لا يقوله تزلفا لأحد ولا لمصلحة دنيوية ولا تنازلا عن عقيدة ودين، وإنما لمصلحة راجحة رآها، أو لدرء مفسدة كبرى، فإن أصاب فالحمد لله وإن أخطأ فحسبه أنه اجتهد وحرص على اتباع الحق.
والواجب إذا قال الشيخ أمرا ثم بين مراده أن يُقبل كلامه والشيخ من أحرص الناس على الصدق، وفي البخاري ومسلم أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي)).
وفي خطبة العيد بين الشيخ الهدف من الوثيقة وهو درء مفسدة عظيمة وهي سفك الدماء وكذلك توقف الخير في دار الحديث، فالشيخ لم يُكره بالمعنى المعروف، وهذا هو الذي أراد الشيخ بيانه في خطبة العيد، ونسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان في كل مكان، وقد ذكر الله في سورة الفتح الحكمة من عدم تسليط الرسول والصحابة على كفار قريش عام الحديبية وما ترتب على ذلك من شروط جائرة فرضتها قريش، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}.
وكذلك فيما يتعلق بعصمة الدماء وعدم استباحتها هذا هو الأصل، إلا في حق الكافر الحربي ورد الصائل وغير ذلك مما أذن فيه الشرع، وهذا هو الذي دندن حوله الشيخ محمد الإمام.
كتبت هذه الكلمات نصيحة لله وقياما بحق رجل من أهل العلم والفضل مع معرفتي بقول الإمام ابن الوزير الصنعاني في الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، قال:
فقد تُكلِم فيمن هم خير من الشيخ محمد الإمام.
وقد قال الشاعر:
وختاما أذكر نفسي وإخواني بقول رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) رواه مسلم.
وبقول أبي العتاهية رحمه الله:
✍️ كتبه
منصور بن محمد بن حسن الزبيري
الجمعة 3 جمادى الأولى 1442
مكة المكرمة