خطبة
إخلاص النية في العبادة
للشيخ الفاضل أبي الحارث سياف بن حسين العياشي الرداعي حفظه الله ورعاه
ألقيت في دار الحديث بمسجد السلف الصالح بذمار
بتأريخ 15 ربيع الآخر 1446
خطبة قيمة جداَ انصح بسماعها
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون إن من أهم الأبواب التي يجب على المسلم أن يتفقه فيها وأن يتفقدها في نفسه باب النيات في العبادات والإخلاص لله في الطاعات ليكون الدين كله لله عز وجل فلأجل الإخلاص بعث الله عز وجل الأولين والآخرين وبه أنزل جميع الكتب على العالمين كما قال ربنا جل ذكره في كتابه الكريم: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}.
واعلموا أيها المؤمنون أن الله عز وجل لا يقبل الأعمال إلا إذا كان العامل مخلصا فيها لله الكريم وموافقا فيها لشرع الله الحكيم كما قال ربنا في كتابه الكريم وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال ربنا في كتابه الكريم: {هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال الفضيل بن عياض في قوله {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: “أي أصوبه وأخلصه فالله جل جلاله لا يقبل من الأعمال إلا ما كانت خالصة لله”.
روى الإمام النسائي وغيره عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: ((إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه)) حسنه العلامة الألباني رحمه الله.
إذا تقرر ذلك فما على العبد إلا أن يخلص في جميع أعماله إذا أراد النجاة من عذاب الله والفوز بثواب الله فليكن مريدا بجميع أعماله وجه الله سبحانه وتعالى أما إذا لم يرد بالأعمال وجه الله وإنما أراد بها مراءاة الناس والطمع فيما عندهم والوصول إلى الأغراض الدنيوية فقط فهذا عمله رد عليه إذا كان مجانبا للإخلاص فعمله رد عليه، ويكون به مرائيا والعمل إذا راءى فيه العبد فإنه مردود عليه مهما عظم ومهما كثر يرده الله عز وجل على صاحبه ولا يثيبه عليه بل يكون مآل صاحبه إلى النار عياذا بالله.
ولا تخفاكم قصة أولئك الثلاثة النفر أصحاب الأعمال الجليلة العظيمة لما لم يبتغوا بها وجه الله ولم يريدوا بها ما عند الله وإنما أرادوا رؤية الناس ومدح الناس وثناؤهم ردها الله عز وجل عليهم وجعلهم أول أناس تسعر بهم النار جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: ((إن أول من يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد قتل شهيدا فجيء به فعرفه نعمة فعرفها، فقال: ما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. فيقول الله له” كذبت إنما قاتلت ليقال جريء – أي بطل وشجاع – وقد قيل. ثم أمر به فسحب حتى ألقي على وجهه في النار)) هو قاتل وخاطر بحياته وسفك دمه وسقط قتيلا قتله الكفار قتل وهو مواجه للكفار عمله في الظاهر عمل جليل وعظيم من أجل الأعمال وأعظمها لكن لما حول الرحل من الداخل والناس لا يعلمون ما في باطنه إنما حكموا على ظاهره فأثنوا عليه بعمله هذا ومدحوه وذكروه بالذكر الحسن والله سبحانه وتعالى المطلع على السرائر الذي يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه الصدور قد علم سوء طويته وسوء سريرته فكتبه من أهل النار عياذا بالله سحب على وجهه في النار.
((ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فجيء به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت بها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك.)) وهذا فيما يبدو للناس ويظهر للناس، قال: ((فيقول الله له: كذبت، إنما تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، وقد قيل)) قد مدحوك في الدنيا، قالوا فيك قارئ، وقالوا فيك عالم، وقالوا فيك علامة، وقالوا فيك فقيه، وقالوا فيك من الألقاب ما قالوا، لكن الله عز وجل عالم بحالك لو اجتمع من في الأرض على إنقاذك من عذاب الله لم يستطيعوا أبدا. قال: ((فيقول الله له: كذبت، إنما تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، وقد قيل فأمر به فسحب حتى ألقي على وجهه في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف الأموال فجيء به فعرفه نعمه فعرفها، فقال له: ما عملت بها؟ قال: ما تركت من سبيل ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك.)) قال: ((فيقول الله له: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال جواد، فقد قيل)) لقد مدحك الناس في الدنيا بناء على ظاهر عملك، فقالوا فيك كريم، وقالوا فيك جواد، وقالوا فيك منفق، وقالوا فيك ما قالوا من الأوصاف التي ظهرت لهم فيك، والله قد علم بحالك، ((يقول الله له: كذبت)). لا يستطيع أن ينكر لأن الله عز وجل مطلع على سريرته وعلى ما في باطنه، ((إنما فعلت ذلك ليقال جواد فقد قيل، فأمر به فسحب حتى ألقي على وجهه في النار)) هذا دليل واضح على أن الميزان في قبول العمل هو الإخلاص وحسن النية، ماذا أردت بعملك هذا تفقد نفسك قبل أن تعمل العمل، وانظر أين أنت من الإخلاص، ماذا أردت بصدقتك، وماذا أردت بصلاتك، وماذا أردت ببرك بأبويك، وماذا أردت بإحسانك إلى الناس، ماذا أردت بالأعمال الصالحة، هل أردت بها وجه الله؟ هل ابتغيت بها ما عند الله من أجل أن يثيبك الله وينجيك من عذابه؟ أم أنك أردت مدح الناس وثناءهم عليك؟
اتق الله واعلم أن الله لا يقبل منك العمل إلا إذا أخلصت فيه، أما إذا لم تخلص في عملك فلا تتعب نفسك، عملك مردود عليك، كما قال ابن القيم رحمه الله قال: “العمل بلا إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا – أي ترابا – فهو يثقله ولا ينفعه”، فهكذا هو حال المرائي الذي لم يرد بأعماله وجه الله، هو يتعب وهكذا ينفق الأموال لكنه لا ينتفع بهذه الأعمال لأنه ما ابتغى بها وجه الله، فهي مردودة عليه سيتركه الله ويترك أعماله ولا يجد لها أثرا من الثواب والأجر، ما أشد حسرته وما أعظم ندامته حينما يرى جميع أعماله من صلاة ومن صيام ومن صدقة أو بعض ذلك يوم أن يجدها هباء منثورا، لا يجد لها أثرا من الثواب والأجر، جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله في الحديث القدسي: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))، إذا صليت وقصدت بهذه الصلاة وجه الله وقصدت بها شيئا آخر: أن يثني عليك من ينظر إليك من الناس، وأن يمدحك على صلاتك هذا؛ فأنت قد أشركت في هذا العمل مع الله غير الله.
انتبه أيها المسلم الكريم لا تغتر بكثرة العمل الذي تقوم به، إذا كان مجردا من الإخلاص فأنت غير منتفع به لأنك واقع في الشرك الخفي، عمل دون إخلاص فيه مراءاة للناس هذا نوع من الشرك، ولذا جاء عند الإمام البيهقي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((الشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلي ويزين صلاته من أجل رؤية رجل إليه)). هكذا يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ما سينفعك وما سيأجرك الذي أردت الثناء منه والذي قصدت رؤيته إليك من أجل أن يمدحك أو من أجل أن تنال منه غرضا دنيويا، هذا لا يملك لك ضرا ولا نفعا فهو مخلوق كما أنت مخلوق وهو فقير كما أنت فقير أين عقلك لا تخضع لشيطانك ولا لنفسك الأمارة بالسوء، أرأيت إذا وكلك الله يوم القيامة إلى من كنت ترائيهم في الدنيا فقال لك اذهب إلى الذين راءيتهم في الدنيا واطلب منهم الجزاء والثواب هل سيملكون لك ذلك؟ كلا والله.
جاء عند الإمام أحمد من حديث محمود بن لبيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: ((الرياء، يقول الله لأصحاب ذلك يوم القيامة حينما يجازي عباده: اذهبوا إلى من كنتم تراؤون في الدنيا وانظروا هل ستجدون عندهم من جزاء)). هذا الحديث يصححه العلامة الألبانية رحمه الله.
تفكر وتذكر إذا وقفت بين يدي الله ورأيت الله يجازي عباده المحسنين على إحسانهم ويضاعف لهم الثواب ويكرمهم بما يكرمهم به وأنت تنتظر ذلك فإذا بك تفاجأ بقول الله لك: اذهب إلى من كنت ترائيه في الدنيا وانظر هل ستجد عنده جزاء. ستعظم حسرتك وستحزن أشد الحزن وتود أنك ما راءيت أحدا من خلق الله.
إذن انتبه لنفسك وجرد أعمالك لله سبحانه وتعالى وجاهد نفسك جاهد نفسك على الإخلاص فإن الإخلاص من أشد ما يكون على المرء هو عسير على النفس وشديد عليها، ولذا لما سئل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: ما هو أشد شيء على النفس؟ قال: “الإخلاص، لأنها ليس لها فيه نصيب”. وقال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجت نفسي على شيء ما عالجتها على الإخلاص”. كانوا يجاهدون أنفسهم ويربون أنفسهم على الإخلاص ويتفقدونها ما بين حين وآخر حتى لا يعملون عملا يذهب يوم القيامة سدى لا يجدون ثوابه ولا أجره.
ولذا معشر المسلمين اجتهدوا في مجاهدة أنفسكم على الإخلاص، وتفقدوا نواياكم ما بين الحين والآخر عند الإقدام على أي عمل من الأعمال الظاهرة أو من الأعمال الباطنة، ولا سيما في الأعمال الظاهرة فهي التي يداخلها الرياء أكثر من الأعمال الباطنة.
ومما يعينك على الإخلاص في هذا أن تحاول إسرار العمل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أن تجعل أعمالك خفية إذا لم تكن من الأعمال التي لا بد أن تعملها بمجمع من الناس كالصلاة مع الجماعة وغيرها كشهود العيدين وشهود الجمعة، لكن الأعمال من النوافل سواء من نوافل الصلاة أو من نوافل الصيام أو من نوافل الصدقة أو من قراءة القرآن أو من غير ذلك من أنواع البر والإحسان إذا استطعت أن تخفيه لله فهذا مما يعينك على الإخلاص ومما يبعدك عن الريا، لأن الذي يسر الأعمال الصالحة هذا دليل على أنه غير عابئ بنظر الناس إليه وغير منتظر من الناس أجرا، وهذه الوسيلة أعني وسيلة إخفاء العمل شديدة على المنافقين وعسيرة على الكذابين، لأن أعمالهم الصالحة بنيت من أول أمرها على مراءاة الناس ولذا لا يثبت على إخفاء العمل إلا الصالحون الذين يبتغون بأعمالهم وجه الله الكريم، ولذا تعددت أقوال السلف في الحث على إسرار العمل وإخفائه من أجل أن يتوفر أجره عند الله سبحانه وتعالى لصاحبه، ومن ذلك قول بعضهم: “اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك”، وقال الآخر وهو بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: “من استطاع أن يكون له خبء عمل فليفعل”. وهذا مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد جاء عند الإمام الخطيب في “التاريخ” والضياء في “المختارة” من حديث الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من استطاع أن يكون له خبء عمل صالح فليفعل)) أي من استطاع أن يكون له خبيئة من عمل صالح لا يعلم به أحد لا زوجة ولا ولد ولا أحد من الناس فليفعل فإن هذا مما يضاعف الله سبحانه وتعالى لصاحبه الأجر والمثوبة، وكم هي أخبار السلف الصالح في هذا الباب كانوا يجتهدون ويحرصون على إخفاء أعمالهم الصالحة من أجل أن يبعدوا أنفسهم عن الريا ومن أجل أن يحققوا الإخلاص الذي أمرهم الله عز وجل به، ومن جملة ذلك ما ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن داود بن أبي هند رحمه الله تعالى أنه مكث أربعين سنة وهو صائم لا يعلم بحاله أحد حتى زوجته لم تعلم بحاله بقي أربعين سنة وهو يصوم صيام النافلة كان خزازا يشتغل في الخز في السوق إذا ذهب في الصباح الباكر حمل معه غداءه فيوهم أهله أنه سيتغدى في السوق، فإذا وصل السوق تصدق بهذا الغدى فيظن أهل السوق أنه قد تغدى في بيته، ويظن أهل بيته أنه تغدى في السوق، وبقي على هذه الحال أربعين سنة، ما ضره يوم أن كتم هذا العمل وأخفاه لله سبحانه وتعالى ليتوفر له الأجر كاملا، ما ضره ذلك، فأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يظهره بعد ذلك من أجل أن يكون ذكرا حسنا بعده ويترحم عليه ويذكر بالخير بعد موته فتزداد حسناته ويعظم أجره عند الله سبحانه وتعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة وهداني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم النبيين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد:
أيها المؤمنون إن الإخلاص عزيز على النفوس وعسير على القلوب فمن اهتدى بهدي الله سبحانه وتعالى وجاهد نفسه على الإخلاص في جميع أعماله فهذا هو الفائز الرابح في الدنيا والآخرة.
ومما يعين على الإخلاص كما سمعت إخفاء العمل حاول أن تخفي عملك ما استطعت إلى ذلك سبيلا فهذا سيكون رفعة لك وبركة عليك في حياتك وبعد مماتك، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله الملقب بزين العابدين الذي سطر التاريخ ذكره وعطر سيرته في كثرة الأعمال الصالحة في الليل والنهار بجميع أنواعها رحمه الله، ومن جملة ذلك أنه كان يحمل الخبز الكثير والطعام على ظهره في ظلمة الليل ويذهب به إلى بيوت المساكين والأرامل فيقرع الأبواب ثم ينصرف فيفتح أهل البيت فيجدون الأنواع من الأطعمة لا يعلمون من جاء بها فيعيشون ولا يعلمون من الذي ينفق عليهم، مكث على هذه الحال عشر سنوات والناس لا يعلمون بحاله، لم يرسل خادما ولا ولدا يريد أن يخفي العمل، وكان يقول رحمه الله: “الصدقة في ظلمة الليل تطفئ غضب الرب”، نعم بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب))، هكذا يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلما مات زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله تعالى وجد في ظهره كدمات سوداء من آثار الحمل الذي كان يحمله فعرف بعد ذلك أنه هو الذي كان يحمل تلك النفقات إلى بيوت المساكين في الليل، بقي على هذه الحال عشر سنوات رحمه الله تعالى، بل يذكر أنه كان ينفق على مائة بيت في المدينة من بيوت المساكين والأرامل، لما مات علي بن الحسين انقطعت تلك النفقات وتلك الأطعمة فعلموا حينئذ أنه هو الذي كان ينفق عليهم رحمه الله تعالى.
انظر ما أجمل الإخلاص كيف يزين صاحبه وكيف يجعل صاحبه مذكورا بالذكر الحسن ولابد مع أنه ما أراد ذلك ما أراد ثناء الناس عليه ولا مدحهم وإنما أراد وجه الله فآجره الله في الدنيا والآخرة، ومن عاجل الأجر في الدنيا أن جعل له الثناء الحسن والذكر الحسن عند الناس في هذه العصور التي مرت وإلى ما شاء الله من الزمن.
هكذا معشر المسلمين إذن الإخلاص أمر ضروري فهو شرط في صحة العمل وليس شرطا في صحة العمل فقط بل هو أيضا سبب لمباركة العمل ومضاعفة الأجر على العمل ولو كان العمل قليلا فرب عمل قليل كبرته النية ورب عمل كبير صغرته النية رب عمل قليل كبرته النية وعظمته النية، يعظم هذا العمل بسبب ما عند صاحبه من الإخلاص ومن حسن النية ومن إرادة وجه الله الكريم بهذا العمل فيعظم العمل، أرأيت ذلك الرجل الذي سقى الكلب عمل يسير لم يكلفه مالا ولا سفرا ولا عناء كبيرا، فقط رحم الكلب ورأى أنه قد بلغ به من العطش مثل الذي كان قد بلغ به فنزل في البئر وملأ خفة ومسكها بفيه ورق البئر ثم سقى الكلب، ماذا كانت نتيجته؛ فشكر الله له وغفر له. عمل يسير لكنه عظم بنية صاحبه، ورأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلا يتقلب في الجنة في غصن شجرة أخرها عن طريق الناس كانت تؤذي الناس، عمل يسير لكن لما صدق في هذا العمل وأراد به وجه الله آجره الله أجرا عظيما، إذن الميزان في الأعمال هو النية والإخلاص لا تتفاضل الأعمال بكبرها ولا بصورها ولا بعددها ولا بكثرتها وإنما تتفاضل الأعمال بما في القلوب من نوايا فربما كانت صورة العملين واحدة هذا يصلي ركعتين وذاك يصلي ركعتين لكن بينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض يختلف هذان العملان باختلاف مقاصد العاملين.
أي نعم معشر المسلمين اجتهدوا في إخلاص العمل ولو كان العمل يسيرا فان الله عز وجل يضاعف الأجر عليه بسبب حسن نية صاحبه، نعم رب عمل أخلصت فيه كان سببا لنجاتك في الأبد، كما قال بعضهم: “إخلاص ساعة نجاة للأبد”، ربما أدركت ساعة رحمة تسعد بها أبد الآبدين.
ولعلي أذكر لكم هذه القصة التي فيها موعظة وفيها عبرة لنا جميعا في أهمية الإخلاص في العمل ولو كان العمل يسيرا وكيف أن العبد إذا أخلص في عمله اليسير ماذا يكون له عند الله من الأجر المضاعف والثواب العظيم، ذكر الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه “البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع”: أن رجلا من الزرعة وكان ذا دين وصلاح وصدقة فاتفق أن بنى مسجدا ليصلي فيه فكان يذهب كل ليلة بالسراج وبعشائه إلى المسجد فإن وجد أحدا في المسجد يصلي تصدق عليه بذلك العشاء وإلا أكله وصلى صلاته ورجع إلى بيته، وبقي على هذه الحال مدة من الزمن ثم إنها حصلت شدة نضب فيها ماء الآبار، وكانت لذلك الرجل الصالح بئر فنضب ماؤها وقل ماؤها فأراد أن يحتفرها هو وأولاده من أجل أن يظهر الماء أكثر، فبينما هم يحتفرون تلك البئر خربت البئر خرابا عظيما وكان هذا الرجل الصالح في أسفل البئر، خربت وسقط كل ما حول البئر عليها، فأيس منه أولاده وقالوا إنه قد مات وهذا قبره، جعلوا تلك البئر قبرا له، وكان ذلك الرجل حينما خربت البئر كان في أسفلها في كهف فسقطت خشبة على باب الكهف منعت وصول الحجارة إليه فبقي في ظلمة شديدة، فلما جاء الليل جاءه ذلك السراج وذلك العشاء الذي كان يحمله كل ليلة إلى المسجد لما صدق في صدقته وفي عمله جاءه ثواب عمله في أحرج الأوقات، من الذي ينقذه في هذه الحالة؟ ومن الذي يعلم بحاله؟ أولاده أقرب الناس إليه قد أيسوا منه وجعلوا تلك البئر قبرا له، جاءه ذلك العشاء وذلك السراج، فكان يستضيء في الليل بذلك السراج ويأكل العشاء وبقي على هذه الحال ست سنوات وهو حي يرزق، فاتفق أولاده أن يحفروا البئر مرة أخرى من أجل إعادتها فحفروا البئر فلما وصلوا إلى أسفلها وجدوا أباهم حيا فعجبوا وسألوه عن حاله فأخبرهم بقصته وأنه كان في كهف وأنها جاءت خشبة سدت فم الكهف حتى لا تصل إليه الحجارة وحتى لا يصل إليه ما يؤذيه، وأنه كان يأتيه السراج والعشاء على ما كان يحمله في حياته وكان به يفرق ما بين الليل والنهار، يعني إذا جاءه العشاء والسراج علم أنه قد دخل الليل كان يفرق به ما بين الليل والنهار، فحينها عجبوا من ذلك عجبا شديدا، وصارت قصة ذلك الرجل موعظة يتعظ بها الناس في مجالسهم وفي أسواقهم، هذه هي نتيجة الإخلاص في الحياة الدنيا فما بالك بنتيجته عند الله في الدار الآخرة والله يقول: {ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}.
أسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقني وإياكم للإخلاص في سائر الأعمال اللهم وفقنا للعمل بكتابك وبسنة رسولك على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المستضعفين المجاهدين من المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على أعدائهم، اللهم يا رب العالمين عجل بنصرهم، اللهم عجل بنصرهم، اللهم عجل بنصرهم، اللهم انصر اخواننا المجاهدين في غزة، اللهم انصرهم نصرا مؤزرا، اللهم كن لهم معينا ونصيرا ومؤيدا وظهيرا، اللهم عليك باليهود الغاصبين المعتدين، اللهم خذهم من فوقهم ومن تحت ارجلهم، اللهم اجعلهم عبرة وآية ولا تحقق لهم غاية يا رب العالمين، اللهم جمد الدماء في عروقهم، اللهم زلزل الأرض من تحت اقدامهم، اللهم اجعلهم عبرة لمن بعدهم يا رب العالمين، اللهم اغفر ذنوبنا كلها دقها وجلها علانيتها وسرها ما علمنا منها وما لم نعلم، الهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وعلمائنا ولمن له حق علينا برحمتك وجودك وفضلك يا ذا الجلال والإكرام، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك وزد على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.